فصل: إيقاف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إيقاظ

التّعريف

1 - الإيقاظ في اللّغة مصدر أيقظه‏:‏ إذا نبّهه من نومه ولا يختلف معناه في الفقه عنه في اللّغة‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - ترد على الإيقاظ الأحكام الشّرعيّة التّالية‏:‏

- فيكون فرضاً، إذا ترتّب على نومه ترك فرضٍ‏.‏ أو كان في تركه تعريض حياته لخطرٍ محقّقٍ‏.‏

- وقد يكون واجباً، إذا كان يغلب على الظّنّ أنّ تركه نائماً قد يعرّضه لخطرٍ، أو يغلب على الظّنّ أنّ تركه يفوّت فرضاً عليه إن نام بعد دخول الوقت‏.‏

- وقد يكون سنةً، كإيقاظ من نام بعد صلاة العصر أو بعد صلاة الفجر، لورود أخبارٍ بالنّهي عن النّوم في هذين الوقتين‏.‏

- وكذلك يندب الإيقاظ لغسل يديه أو ثوبه من بقايا الطّعام - لا سيّما اللّحم - لورود النّهي عن النّوم على تلك الحال‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من بات، وفي يده غمر، فأصابه شيء فلا يلومنّ إلاّ نفسه»‏.‏

- وكذلك إيقاظ من نام في المحراب أو في قبلة المصلّين في الصّفّ الأوّل‏.‏

- وقد يكون حراماً، كما لو كان في إيقاظه ضرر محقّق، كالمريض إذا نهى الطّبيب عن إيقاظه‏.‏ هذا ولا بدّ من مراعاة القاعدة الشّرعيّة في دفع الضّرر الأكبر بارتكاب ما هو أخفّ منه، لأنّه يرتكب أهون الضّررين‏.‏ على أنّه إذا انتفى سبب ممّا سبق، فإنّ الأصل كراهة إيقاظ النّائم لما فيه من الإيذاء، ولما ورد من أخبارٍ تراعى فيها حال النّائم، كمنع السّلام على النّائم، وخفض الصّوت لمن يصلّي جهراً بحضرة نائمٍ‏.‏

من مواطن البحث

3 - يذكر الفقهاء حكم الإيقاظ في كتاب الصّلاة، حين الكلام على أوقاتها، بمناسبة التّعرّض لكراهة النّوم قبل الصّلاة خوف تضييعها بخروج الوقت‏.‏

إيقاف

انظر‏:‏ وقف‏.‏

إيلاء

التّعريف

1-الإيلاء في اللّغة معناه‏:‏ الحلف مطلقاً، سواء أكان على ترك قربان الزّوجة أم على شيءٍ آخر، مأخوذ من آلى على كذا يولي إيلاءً وأليةً‏:‏ إذا حلف على فعل شيءٍ أو تركه‏.‏ كان الرّجل في الجاهليّة إذا غضب من زوجته حلف ألاّ يطأها السّنة والسّنتين، أو ألاّ يطأها أبداً، ويمضي في يمينه من غير لومٍ أو حرجٍ، وقد تقضي المرأة عمرها كالمعلّقة، فلا هي زوجة تتمتّع بحقوق الزّوجة، ولا هي مطلّقة تستطيع أن تتزوّج برجلٍ آخر، فيغنيها اللّه من سعته‏.‏ فلمّا جاء الإسلام أنصف المرأة، ووضع للإيلاء أحكاماً خفّفت من أضراره، وحدّد للمولي أربعة أشهرٍ، وألزمه إمّا بالرّجوع إلى معاشرة زوجته، وإمّا بالطّلاق عليه‏.‏

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏للّذين يُؤْلُون من نسائِهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ فإنْ فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم وإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فإنّ اللّه سميعٌ عليمٌ‏}‏‏.‏

والإيلاء في الاصطلاح - يعرّفه الحنفيّة - أن يحلف الزّوج باللّه تعالى، أو بصفةٍ من صفاته الّتي يحلف بها، ألاّ يقرب زوجته أربعة أشهرٍ أو أكثر، أو أن يعلّق على قربانها أمراً فيه مشقّة على نفسه، وذلك كأن يقول الرّجل لزوجته‏:‏ واللّه لا أقربك أربعة أشهرٍ، أو ستّةً، أو يقول‏:‏ واللّه لا أقربك أبداً، أو مدّة حياتي، أو واللّه لا أقربك ولا يذكر مدّةً، وهذه صورة الحلف باللّه تعالى، أمّا صورة التّعليق، فهو أن يقول‏:‏ إن قربتك فللّه عليّ صيام شهرٍ، أو حجّ، أو إطعام عشرين مسكيناً، ونحو ذلك ممّا يكون فيه مشقّة على النّفس، فإذا قال الزّوج شيئاً من هذا اعتبر قوله إيلاءً‏.‏ أمّا إذا امتنع الرّجل من قربان زوجته بدون يمينٍ، فإنّه لا يكون إيلاءً، ولو طالت مدّة الامتناع حتّى بلغت أربعة أشهرٍ أو أكثر، بل يعتبر سوء معاشرةٍ يتيح لزوجته طلب الفرقة عند بعض الفقهاء، إذا لم يكن هناك عذر يمنع من قربانها‏.‏ وكذلك لو حلف الزّوج بغير اللّه تعالى كالنّبيّ والوليّ ألاّ يقرب زوجته، فإنّه لا يكون إيلاءً، لأنّ الإيلاء يمين، والحلف بغير اللّه تعالى ليس يميناً شرعاً، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت»‏.‏

ومثل هذا لو علّق الرّجل على قربان زوجته أمراً ليس فيه مشقّة على النّفس، كصلاة ركعتين أو إطعام مسكينٍ، لا يكون إيلاءً‏.‏

وكذلك لو كانت المدّة الّتي حلف على ترك قربان الزّوجة فيها أقلّ من أربعة أشهرٍ لا يعتبر إيلاءً، وذلك لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏للّذين يُؤْلون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ‏}‏ فإنّه سبحانه ذكر للإيلاء في حكم الطّلاق مدّةً مقدّرةً هي أربعة أشهرٍ، فلا يكون الحلف على ما دونها إيلاءً في حقّ هذا الحكم‏.‏ وقد وافق الحنفيّة - في أنّ الإيلاء يكون بالحلف باللّه تعالى وبالتّعليق - المالكيّة، والشّافعيّ في الجديد، وأحمد بن حنبلٍ في روايةٍ‏.‏

وخالف في ذلك الحنابلة في الرّواية المشهورة، فقالوا‏:‏ الإيلاء لا يكون إلاّ بالحلف باللّه تعالى، أمّا تعليق الطّلاق أو العتق أو المشي إلى بيت اللّه تعالى على قربان الزّوجة فإنّه لا يكون إيلاءً، لأنّ الإيلاء قسم، والتّعليق لا يسمّى قسماً شرعاً ولا لغةً، ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم، ولا يجاب بجوابه، ولا يذكره أهل العربيّة في باب القسم، وعلى هذا لا يكون إيلاءً‏.‏ وحجّة الحنفيّة ومن وافقهم‏:‏ أنّ تعليق ما يشقّ على النّفس يمنع من قربان الزّوجة خوفاً من وجوبه، فيكون إيلاءً كالحلف باللّه تعالى، والتّعليق - وإن كان لا يسمّى قسماً شرعاً ولغةً - ولكنّه يسمّى حلفاً عرفاً‏.‏

ومذهب الحنفيّة أنّ الإيلاء يكون بالحلف على ترك قربان الزّوجة أربعة أشهرٍ أو أكثر‏.‏ وذهب الجمهور المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الإيلاء لا يكون إلاّ بالحلف على ترك قربان الزّوجة أكثر من أربعة أشهرٍ، وسيأتي ذكر هذه الآراء وأدلّتها في الكلام عن مدّة الإيلاء‏.‏

2 - والحكمة في موقف الشّريعة الإسلاميّة من الإيلاء هذا الموقف‏:‏ أنّ هجر الزّوجة قد يكون من وسائل تأديبها، كما إذا أهملت في شأن بيتها أو معاملة زوجها، أو غير ذلك من الأمور الّتي تستدعي هجرها، علّها تثوب إلى رشدها ويستقيم حالها، فيحتاج الرّجل في مثل هذه الحالات إلى الإيلاء، يقوّي به عزمه على ترك قربان زوجته تأديباً لها ورغبةً في إصلاحها، أو لغير ذلك من الأغراض المشروعة‏.‏ فلهذا لم تبطل الشّريعة الإسلاميّة الإيلاء جملةً، بل أبقته مشروعاً في أصله، ليمكن الالتجاء إليه عند الحاجة‏.‏

ركن الإيلاء

3 - ركن الإيلاء الّذي يتوقّف تحقّق الإيلاء على وجوده هو‏:‏ اللّفظ، أو ما يقوم مقام اللّفظ على التّفصيل والخلاف المتقدّم‏.‏

والّذي يقوم مقام اللّفظ‏:‏ الكتابة المستبينة، وهي الكتابة الظّاهرة الّتي يبقى أثرها، كالكتابة على الورق ونحوه‏.‏ أمّا الكتابة غير المستبينة، وهي الّتي لا يبقى أثرها، كالكتابة على الهواء، أو على الماء فلا تقوم مقام اللّفظ في ذلك، ولا يصحّ بها الإيلاء‏.‏

ومثل الكتابة في ذلك الإشارة عند العجز عن النّطق بالعبارة، كالأخرس ومن في حكمه‏.‏ فإذا كان للأخرس إشارة مفهمة، يعرف المتّصلون به أنّ المراد بها الحلف على الامتناع من قربان الزّوجة أربعة أشهرٍ أو أكثر، صحّ الإيلاء بها، كما يصحّ طلاقه وسائر تصرّفاته‏.‏

شرائط الإيلاء

4 - شرائط الإيلاء كثيرة ومتنوّعة، منها ما يشترط في ركن الإيلاء، ومنها ما يشترط في الرّجل والمرأة معاً، ومنها ما يشترط في الرّجل المولي، ومنها ما يشترط في المدّة المحلوف عليها‏.‏ وفيما يلي بيان كلّ نوعٍ منها‏:‏

أ - شرائط الرّكن‏:‏

يشترط في ركن الإيلاء، وهو صيغته، ثلاث شرائط‏:‏

الشّريطة الأولى‏:‏

5 - أن يكون اللّفظ صالحاً للدّلالة على معنى الإيلاء، وذلك بأن تكون مادّة اللّفظ دالّةً على منع الزّوج من قربان زوجته دلالةً واضحةً عرفاً، مثل قول الرّجل لزوجته‏:‏ واللّه لا أواقعك، أو لا أجامعك، وما أشبه ذلك‏.‏

وينقسم اللّفظ الصّالح للدّلالة على الإيلاء ثلاثة أقسامٍ على ما هو مذهب الحنفيّة والحنابلة‏:‏ الأوّل‏:‏ صريح، وهو ما دلّ على الوطء لغةً وعرفاً‏.‏

وحكم هذا النّوع أنّه يعتبر إيلاءً متى صدر عن قصدٍ إلى التّلفّظ به بدون توقّفٍ على النّيّة، ولو قال الزّوج‏:‏ إنّه لم يرد الإيلاء لا يعتبر قوله لا ديانةً ولا قضاءً، لأنّ اللّفظ لا يحتمل غير الإيلاء، فإرادة معنًى آخر خلافه تكون إرادةً محضةً بدون لفظٍ يدلّ عليها، فلا تعتبر‏.‏ الثّاني‏:‏ ما يجري مجرى الصّريح، وهو ما يستعمل في الجماع عرفاً، كلفظ القربان والاغتسال، وذلك كأن يحلف الرّجل ألاّ يقرب زوجته، وبه ورد القرآن الكريم قال تعالى‏:‏

‏{‏ولا تَقْرَبُوهنّ حتّى يَطْهُرْن‏}‏‏.‏

وكذلك لو حلف ألاّ يغتسل منها، لأنّ الاغتسال منها لا يكون إلاّ عن الجماع عادةً‏.‏

وحكم هذا النّوع أنّه يعتبر إيلاءً في القضاء من غير توقّفٍ على النّيّة، وعلى هذا لو قال الزّوج لزوجته‏:‏ واللّه لا أقربك، ثمّ ادّعى أنّه لم يقصد بهذا اللّفظ الجماع، لا يقبل منه هذا الادّعاء في القضاء، ويقبل منه ديانةً، أي فيما بينه وبين اللّه تعالى، لأنّ اللّفظ الّذي ورد في عبارته يحتمل المعنى الّذي ادّعاه، وإن كان خلاف الظّاهر، فإذا نواه فقد نوى معنًى يحتمله اللّفظ، فتكون إرادته صحيحةً، إلاّ أنّه لمّا كان المعنى الّذي أراده يخالف المعنى الظّاهر من ذلك اللّفظ لم يقبل منه ما ادّعاه قضاءً، وقبل منه ديانةً‏.‏

الثّالث‏:‏ الكناية، وهو ما يحتمل الجماع وغيره، ولم يغلب استعماله في الجماع عرفاً، كما إذا حلف الرّجل‏:‏ ألاّ يمسّ جلده جلد زوجته، أو ألاّ يقرب فراشها، أو ألاّ يجمع رأسه ورأسها وسادة‏.‏

وحكم هذا النّوع‏:‏ أنّه لا يعتبر إيلاءً إلاّ بالنّيّة، فإذا قال الزّوج‏:‏ أردت ترك الجماع كان مولياً، وإن قال‏:‏ لم أرد ترك الجماع لم يكن مولياً، لأنّ هذه الألفاظ تستعمل في الجماع وفي غيره استعمالاً واحداً فلا يتعيّن الجماع إلاّ بالنّيّة‏.‏ ومذهب الشّافعيّة، وهو ظاهر ما قاله المالكيّة‏:‏ أنّ الألفاظ في ذلك تنقسم إلى صريحةٍ وكنايةٍ فقط‏.‏

الشّريطة الثّانية‏:‏

6 - أن تكون الصّيغة دالّةً على الإرادة الجازمة للحال، ويتحقّق هذا الشّرط بخلوّ الصّيغة من كلّ كلمةٍ تدلّ على التّردّد أو الشّكّ‏.‏ وألاّ تكون مشتملةً على أداةٍ من الأدوات الدّالّة على التّأخير والتّسويف، كحرف السّين أو سوف، لأنّ التّردّد كالرّفض من حيث الحكم، والتّأخير وعد بإنشاء التّصرّف في المستقبل، وليس إنشاءً له في الحال، فالإرادة في التّصرّف غير موجودةٍ في الحال، ولا يوجد التّصرّف إلاّ بإرادة إنشائه في الحال‏.‏

فمن يقول لزوجته‏:‏ واللّه سأمنع نفسي من مواقعتك، أو سوف أمنع نفسي من معاشرتك، لا يكون مولياً لأنّ هذه الصّيغة لا تدلّ على إرادة منع نفسه من المواقعة في الحال، وإنّما تدلّ على أنّه سيفعل ذلك في المستقبل‏.‏

هذا، وممّا ينبغي التّنبيه له هنا أنّ اشتراط الجزم في الإرادة للحال لا ينافي جواز أن تكون الصّيغة معلّقةً على حصول أمرٍ في المستقبل، أو مضافةً إلى زمنٍ مستقبلٍ، وذلك لأنّ الإرادة في الإيلاء المعلّق والمضاف مقطوع بها، لا تردّد فيها، غاية الأمر أنّ الإيلاء المعلّق لم يحصل الجزم به من قبل المولي في الحال، بل عند وجود المعلّق عليه، والإيلاء المضاف مجزوم به في الحال، غير أنّ ابتداء حكمه مؤخّر إلى الوقت الّذي أضيف إليه، وأنّ التّعليق والإضافة قد صدرا بإرادةٍ جازمةٍ في الحال‏.‏

الشّريطة الثّالثة‏:‏ صدور التّعبير عن قصدٍ‏:‏

7 - يتحقّق هذا الشّرط بإرادة الزّوج النّطق بالعبارة الدّالّة على الإيلاء أو ما يقوم مقامها، فإذا اجتمع مع هذه الإرادة رغبة في الإيلاء وارتياح إليه كان الإيلاء صادراً عن رضًى واختيارٍ صحيحٍ، وإن وجدت الإرادة فقط، وانتفت الرّغبة في الإيلاء والارتياح إليه لم يتحقّق الرّضى، وذلك كأن يكون الزّوج مكرهاً على الإيلاء من زوجته بتهديده بالقتل أو الضّرب الشّديد أو الحبس المديد، فيصدر عنه الإيلاء خوفاً من وقوع ما هدّد به لو امتنع، فإنّ صدور الصّيغة من الزّوج في هذه الحال يكون عن قصدٍ وإرادةٍ، لكن ليس عن رضًى واختيارٍ صحيحٍ‏.‏ والإيلاء في هذه الحال - حال الإكراه - غير صحيحٍ عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، مستندين في ذلك إلى ما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه»، وإلى حديث عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا طلاق ولا عتاق في إغلاقٍ» والإغلاق‏:‏ الإكراه، لأنّ المكره يغلق عليه أمره، ويقفل عليه رأيه وقصده، وإلى أنّ المكره يحمل على النّطق بالعبارة بغير حقٍّ فلا يترتّب عليها حكم، كنطقه بكلمة الكفر إذا أكره عليها‏.‏

أمّا عند الحنفيّة فإيلاء المكره معتبر، وتترتّب عليه آثاره الّتي سيأتي بيانها، لأنّ الإيلاء عندهم من التّصرّفات الّتي تصحّ مع الإكراه، نصّوا على ذلك في باب الأيمان والطّلاق، وأنّ الإيلاء يمين في أوّل الأمر، وطلاق باعتبار المال، فينطبق عليه ما يقرّر في بابي الأيمان والطّلاق‏.‏ وقد استندوا في ذلك إلى قياس المكره على الهازل، لأنّ كلّاً منهما تصدر عنه صيغة التّصرّف عن قصدٍ واختيارٍ، لكنّه لا يريد حكمها، وطلاق الهازل ويمينه معتبران، فكذلك المكره‏.‏

8 - ولو صدرت صيغة الإيلاء من الزّوج، لكنّه لم يرد موجبها، بل أراد اللّهو واللّعب - وهذا هو الهازل - فإنّ الإيلاء يكون معتبراً عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وغيرهم من أهل العلم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث جدّهنّ جدّ، وهزلهنّ جدّ‏:‏ النّكاح والطّلاق والرّجعة» ولأنّ الهازل قاصد للسّبب، وهو الصّيغة غير ملتزمٍ لحكمه، وأنّ ترتّب الأحكام على أسبابها موكول إلى الشّارع لا إلى المتصرّف‏.‏

9 - ولو أراد الزّوج أن يتكلّم بغير الإيلاء، فجرى على لسانه الإيلاء من غير قصدٍ أصلاً - وهو المخطئ - فمذهب الشّافعيّة والحنابلة عدم اعتبار إيلاء المخطئ، لأنّ التّصرّف إنّما يعتبر إذا قصد اللّفظ الّذي يدلّ عليه وأريد حكمه الّذي يترتّب عليه، أو قصد اللّفظ وإن لم يرد حكمه، والمخطئ‏.‏ لم يقصد اللّفظ الدّالّ على الإيلاء ولا حكمه، فلا يكون الإيلاء الصّادر منه معتبراً‏.‏

وذهب الحنفيّة في المخطئ إلى أنّ إيلاءه لا يعتبر ديانةً، ويعتبر قضاءً‏.‏ ومعنى اعتباره في القضاء دون الدّيانة‏:‏ أنّه إذا لم يعلم بالإيلاء إلاّ الزّوج، كان له أن يعاشر زوجته من غير حرجٍ ولا كفّارة عليه في ذلك، وإذا مضت مدّة الإيلاء لا يقع الطّلاق، وإذا سأل فقيهاً عمّا صدر منه جاز له أن يفتيه بأن لا شيء عليه، متى علم صدقه فيما يقول‏.‏ فإذا تنازع الزّوجان ورفع الأمر إلى القاضي حكم بلزوم الكفّارة بالحنث إذا اتّصل بزوجته قبل مضيّ المدّة، وبوقوع الطّلاق إذا مضت المدّة بدون معاشرةٍ، كما هو مذهب الحنفيّة، لأنّ القاضي يبني أحكامه على الظّاهر، واللّه يتولّى السّرائر‏.‏ ولو قبل في القضاء دعوى أنّ ما جرى على لسانه لم يكن مقصوداً، وإنّما المقصود شيء آخر لا نفتح الباب أمام المحتالين الّذين يقصدون النّطق بالصّيغة الدّالّة على الإيلاء، ثمّ يدّعون أنّه سبق لسانٍ‏.‏

ويرى المالكيّة - كما يؤخذ من كلامهم في الطّلاق - أنّه إذا ثبت أنّ الزّوج لم يقصد النّطق بصيغة الإيلاء، بل قصد أن يتكلّم بغير الإيلاء، فزلّ لسانه، وتكلّم بالصّيغة الدّالّة على الإيلاء لا يكون إيلاءً في القضاء، كما لا يكون إيلاءً في الدّيانة والفتوى‏.‏

ويتّضح ممّا تقدّم الفرق بين الخطأ‏:‏ والهزل والإكراه، وهو أنّه في الخطأ لا تكون العبارة الّتي نطق بها الزّوج مقصودةً أصلاً، بل المقصود عبارة أخرى، وصدرت هذه بدلاً عنها‏.‏ وفي الهزل‏:‏ تكون العبارة مقصودةً، لأنّها برضى الزّوج واختياره، ولكن حكمها لا يكون مقصوداً، لأنّ الزّوج لا يريد هذا الحكم، بل يريد شيئاً آخر هو اللّهو واللّعب‏.‏ وفي الإكراه‏:‏ تكون العبارة صادرةً عن قصدٍ واختيارٍ، ولكنّه اختيار غير سليمٍ، لوجود الإكراه، وهو يؤثّر في الإرادة، ويجعلها لا تختار ما ترغب فيه وترتاح إليه، بل تختار ما يدفع الأذى والضّرر‏.‏

أحوال صيغة الإيلاء

10 - الصّيغة الّتي ينشئ الزّوج الإيلاء بها تارةً تصدر خاليةً من التّعليق على حصول أمرٍ في المستقبل، ومن الإضافة إلى زمنٍ مستقبلٍ، وتارةً تصدر مشتملةً على التّعليق على حصول أمرٍ في المستقبل، أو الإضافة إلى زمنٍ مستقبلٍ‏.‏

فإذا صدرت الصّيغة، وكانت خاليةً من التّعليق والإضافة، كان الإيلاء منجّزاً‏.‏

وإن صدرت، وكانت مشتملةً على التّعليق على حصول أمرٍ في المستقبل، كان الإيلاء معلّقاً‏.‏ وإن صدرت وكانت مضافةً إلى زمنٍ مستقبلٍ، كان الإيلاء مضافاً‏.‏ وعلى هذا فالإيلاء المنجّز هو‏:‏ ما كانت صيغته مطلقةً غير مضافةٍ إلى زمنٍ مستقبلٍ، ولا معلّقةً على حصول أمرٍ في المستقبل، ومن أمثلة التّنجيز أن يقول الرّجل لزوجته‏:‏ واللّه لا أقربك خمسة أشهرٍ، وهذا يعتبر إيلاءً في الحال، وتترتّب عليه آثاره بمجرّد صدوره‏.‏

والإيلاء المعلّق هو‏:‏ ما رتّب فيه الامتناع عن قربان الزّوجة على حصول أمرٍ في المستقبل بأداةٍ من أدوات الشّرط، مثل ‏(‏إن‏)‏ ‏(‏وإذا‏)‏ ‏(‏ولو‏)‏ ‏(‏ومتى‏)‏ ونحوها، وذلك كأن يقول الرّجل لزوجته‏:‏ إن أهملت شئون البيت، أو يقول لها‏:‏ لو كلّمت فلاناً فواللّه لا أقربك‏.‏ وفي هذه الحال، لا يعتبر ما صدر عن الرّجل إيلاءً قبل وجود الشّرط المعلّق عليه، لأنّ التّعليق يجعل وجود التّصرّف المعلّق مرتبطاً بوجود الشّرط المعلّق عليه، ففي المثال المتقدّم لا يكون الزّوج مولياً قبل أن تهمل المرأة في شئون البيت، أو تكلّم ذلك الشّخص، فإذا أهملت شئون البيت أو كلّمته صار مولياً، واحتسبت مدّة الإيلاء من وقت الإهمال أو التّكليم فقط، لا من وقت قول الزّوج‏.‏

والإيلاء المضاف هو‏:‏ ما كانت صيغته مقرونةً بوقتٍ مستقبلٍ يقصد الزّوج منع نفسه من قربان زوجته عند حلول هذا الوقت، ومثاله‏:‏ أن يقول الرّجل لزوجته‏:‏ واللّه لا أقربك من أوّل الشّهر الآتي، أو يقول لها‏:‏ واللّه لا أقربك من غدٍ‏.‏

وفي هذه الحال، يعتبر ما صدر عن الرّجال إيلاءً من وقت صدور اليمين، ولكنّ الحكم لا يترتّب عليه إلاّ عند وجود الوقت الّذي أضيف إليه الإيلاء، لأنّ الإضافة لا تمنع انعقاد اليمين سبباً لحكمه، ولكنّها تؤخّر حكمه إلى الوقت الّذي أضيف إليه، ففي قول الرّجل لزوجته‏:‏ واللّه لا أقربك من أوّل الشّهر القادم يعتبر الزّوج مولياً من زوجته من الوقت الّذي صدرت فيه هذه الصّيغة، ولهذا لو كان الرّجل قد حلف باللّه تعالى ألاّ يولّي من زوجته حكم بحنثه في هذه، وإن لم يحن الوقت الّذي أضيفت إليه اليمين، ووجب عليه كفّارة يمينٍ بمجرّد صدور الصّيغة المضافة، لكن لو اتّصل بزوجته قبل مجيء الشّهر الّذي أضاف الإيلاء إليه لا يحكم بحنثه ووجوب كفّارة اليمين عليه، كما أنّ مدّة الإيلاء لا تحتسب إلاّ من أوّل الشّهر الّذي أضاف الإيلاء إليه‏.‏

وإنّما صحّ تعليق الإيلاء وإضافته لأنّه يمين، واليمين من التّصرّفات الّتي تقبل الإضافة والتّعليق‏.‏ ولم نعثر على كلامٍ للمالكيّة والشّافعيّة في قبول الإيلاء للإضافة‏.‏

أمّا الحنابلة فقد أوردوا من تطبيقات الإيلاء ما يدلّ على قبول الإيلاء للإضافة‏.‏

ب - ما يشترط في الرّجل والمرأة معاً‏:‏

11 - يشترط لصحّة الإيلاء في الرّجل والمرأة معاً قيام النّكاح بينهما حقيقةً أو حكماً عند حصول الإيلاء أو إضافته إلى النّكاح‏.‏ أمّا قيام النّكاح حقيقةً، فيتحقّق بعقد الزّواج الصّحيح، وقبل حصول الفرقة بين الرّجل وزوجته، سواء أدخل الرّجل بزوجته أم لم يدخل‏.‏

وأمّا قيامه حكماً، فيتحقّق بوجود العدّة من الطّلاق الرّجعيّ، لأنّ المرأة بعد الطّلاق الرّجعيّ تكون زوجةً من كلّ وجهٍ ما دامت العدّة، فتكون محلّاً للإيلاء، كما تكون محلّاً للطّلاق، فإذا أقسم الزّوج ألاّ يقرب زوجته الّتي طلّقها طلاقاً رجعيّاً مدّةً تستغرق أربعة أشهرٍ فأكثر كان مولياً، فإن مضت أربعة أشهرٍ والمرأة لا تزال في العدّة، بأن كانت حاملاً، أو كانت غير حاملٍ وكان طهرها بين الحيضتين يمتدّ طويلاً، فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يؤمر الرّجل بالفيء، فإن لم يفء طلّق عليه القاضي إن امتنع عن الطّلاق، على ما سيأتي في الكلام عن أثر الإيلاء بعد انعقاده‏.‏ وعند الحنفيّة تقع عليها طلقة أخرى‏.‏

أمّا إذا كانت العدّة من طلاقٍ بائنٍ، فإنّ المرأة في أثنائها لا تكون محلّاً للإيلاء، سواء أكان بائناً بينونةً صغرى، أم بائناً بينونةً كبرى، لأنّ الطّلاق البائن بنوعيه يزيل رابطة الزّوجيّة، ولا يبقي من آثار الزّواج شيئاً سوى العدّة وما يتعلّق بها من أحكامٍ، فيحرم على المطلّق قربان المطلّقة طلاقاً بائناً ولو كانت العدّة قائمةً، فإذا حلف الرّجل ألاّ يقرب زوجته الّتي طلّقها طلاقاً بائناً كانت يمينه لغواً في حكم البرّ، حتّى لو مضت أربعة أشهرٍ فأكثر ولم يقربها لم يقع عليها طلاق ثانٍ‏.‏

أمّا في حكم الحنث فإنّها معتبرة، ولهذا لو عقد عليها، ثمّ وطئها حنث في يمينه، ووجبت عليه كفّارة الحنث في اليمين، لعدم الوفاء بموجبها، وهو عدم قربانها، أي أنّ حلفه لم ينعقد إيلاءً، ولكنّه انعقد يميناً‏.‏

ومثل هذا لو قال لامرأةٍ أجنبيّةٍ‏:‏ واللّه لا أقربك، وأطلق في يمينه، أو قال‏:‏ أبداً، ثمّ تزوّجها فإنّه لا يعتبر مولياً في حكم البرّ، لعدم قيام النّكاح حقيقةً ولا حكماً عند الحلف، حتّى لو مضت أربعة أشهرٍ بعد الزّواج، ولم يقربها لا يقع عليها شيء، لأنّ النّكاح لم يكن قائماً عند حصول اليمين، لكن لو قربها بعد الزّواج أو قبله لزمته الكفّارة، لانعقاد اليمين في حقّ الحنث، لأنّه لا يشترط في انعقاده في حقّ الحنث قيام النّكاح، بخلاف انعقاده في حقّ البرّ، فإنّه يشترط فيه قيام النّكاح‏.‏

وأمّا إضافة الإيلاء إلى النّكاح، فصورته أن يقول الرّجل لامرأةٍ أجنبيّةٍ‏:‏ إن تزوّجتك فواللّه لا أقربك، ثمّ يتزوّجها فإنّه يصير مولياً، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة الّذين أجازوا إضافة الطّلاق أو تعليقه على النّكاح، وحجّتهم في ذلك‏:‏ أنّ المعلّق بالشّرط كالمنجّز عند وجود الشّرط، والمرأة عند وجود الشّرط زوجة، فتكون محلّاً للإيلاء المضاف إلى النّكاح، كما تكون محلّاً للطّلاق‏.‏

وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا يصحّ الإيلاء المضاف إلى النّكاح، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذين يُؤْلون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ‏}‏ فإنّه سبحانه جعل الإيلاء من الزّوجة، والمرأة الّتي يضاف الإيلاء منها إلى نكاحها ليست زوجةً عند حصول الإيلاء، فلا يكون الإيلاء منها صحيحاً، ولأنّ الإيلاء حكم من أحكام النّكاح، وحكم الشّيء لا يتقدّمه، كالطّلاق والقسم، ولأنّ المدّة تضرب للمولي لقصده الإضرار بيمينه، وإذا كانت اليمين قبل النّكاح لم يتحقّق هذا القصد، فأشبه الممتنع بغير يمينٍ‏.‏

12 - والخلاف بين الفقهاء في صحّة تعليق الطّلاق والإيلاء بالنّكاح وعدم صحّته مبنيّ على اختلافهم في التّعليق وأثره في التّصرّف المعلّق‏.‏

فعند الحنفيّة‏:‏ التّعليق يؤخّر انعقاد التّصرّف المعلّق سبباً لحكمه حتّى يوجد المعلّق عليه‏.‏ فالتّصرّف المعلّق لا وجود له عند التّكلّم بالصّيغة، وإنّما يوجد عند وجود المعلّق عليه‏.‏ وعند الشّافعيّة ومن وافقهم‏:‏ التّعليق لا يؤخّر انعقاد التّصرّف سبباً لحكمه، وإنّما يمنع ترتّب الحكم عليه حتّى يوجد الشّرط المعلّق عليه‏.‏ فعندهم التّصرّف المعلّق على شرطٍ موجود عند التّكلّم بالصّيغة، غير أنّ حكمه لا يترتّب عليه إلاّ عند وجود الشّرط المعلّق عليه‏.‏ وبناءً على هذا‏:‏ من قال لامرأةٍ أجنبيّةٍ‏:‏ إن تزوّجتك فأنت طالق، ثمّ تزوّجها وقع الطّلاق عند الحنفيّة ومن معهم، لأنّ الشّرط لصحّة الطّلاق أن تكون المرأة محلّاً للطّلاق عند وجوده، والطّلاق المعلّق لا يوجد في رأيهم إلاّ عند تحقّق الشّرط، وعند تحقيق الشّرط تكون المرأة محلّاً للطّلاق، إذ هي في ذلك الوقت زوجة، فيقع عليها الطّلاق‏.‏

وعند الشّافعيّة ومن وافقهم‏:‏ لا يقع الطّلاق، لأنّ الطّلاق المعلّق ينعقد سبباً لحكمه عند التّكلّم به، والمرأة في ذلك الوقت لم تكن زوجةً، فلم تتحقّق المحلّيّة الّتي هي شرط وقوع الطّلاق، فلا يقع الطّلاق‏.‏ وأنّ الإيلاء كالطّلاق في هذا الحكم‏.‏

ج - ما يشترط في المولي‏:‏

13 - يشترط في الرّجل لكي يكون إيلاؤه صحيحاً ما يأتي‏:‏

أوّلاً‏:‏ البلوغ، بظهور العلامات الطّبيعيّة أو بالسّنّ، فإيلاء الصّبيّ لا ينعقد ‏(‏ر‏:‏ مصطلح‏:‏ بلوغٍ‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ العقل، فلا يصحّ الإيلاء من المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل، ولا من المعتوه، لأنّ المعتوه قد لا يكون عنده إدراك ولا تمييز فيكون كالمجنون، وقد يكون عنده إدراك وتمييز ولكنّه لا يصل إلى درجة الإدراك عند الرّاشدين العاديّين كالصّبيّ المميّز، والصّبيّ المميّز لا يصحّ منه الإيلاء، فكذلك المعتوه‏.‏

ومثل المجنون في الحكم الأشخاص التّالي ذكرهم‏:‏

- 1 - المدهوش، وهو الّذي اعترته حالة انفعالٍ لا يدري فيها ما يقول أو يفعل، أو يصل به الانفعال إلى درجةٍ يغلب معها الخلل في أقواله وأفعاله‏.‏

فإذا صدر الإيلاء من الزّوج، وهو في هذه الحال لا يعتبر، وإن كان يعلمه ويريده، لأنّ هذا العلم وهذه الإرادة غير معتبرين، لعدم حصولهما عن إدراكٍ صحيحٍ، كما لا يعتبر ذلك من الصّبيّ المميّز‏.‏

- 2 - المغمى عليه والنّائم، فالمغمى عليه في حكم المجنون، ومثله النّائم، لأنّه لا إدراك عنده ولا وعي، فلا يعتدّ بالإيلاء الّذي يصدر عنه كما لا يعتدّ بطلاقه‏.‏

- 3 - السّكران، وهو الّذي صار عقله مغلوباً من تأثير المسكر، حتّى صار يهذي ويخلط في كلامه، ولا يعي بعد إفاقته ما كان منه في حال سكره، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ إيلاء السّكران لا يعتبر إذا كان سكره من طريقٍ غير محرّمٍ، كما لو شرب المسكر للضّرورة، أو تحت ضغط الإكراه، لأنّ السّكران لا وعي عنده ولا إدراك كالمجنون والنّائم، بل أشدّ حالاً من النّائم، إذ النّائم ينتبه بالتّنبيه، أمّا السّكران فلا ينتبه إلاّ بعد الإفاقة من السّكر، فإذا لم يعتبر الإيلاء الصّادر من النّائم، فلا يعتبر الإيلاء الصّادر من السّكران بالطّريق الأولى‏.‏ واختلفوا فيما إذا كان السّكر بطريقٍ محرّمٍ، وذلك بأن يشرب المسكر باختياره، وهو يعلم أنّه مسكر، من غير ضرورةٍ حتّى يسكر، فقال بعضهم‏:‏ يعتبر إيلاؤه، وهو قول جمهور الحنفيّة ومالكٍ والشّافعيّ وأحمد في روايةٍ عنه، لأنّه لمّا تناول المحرّم باختياره يكون قد تسبّب في زوال عقله، فيجعل موجوداً عقوبةً له وزجراً عن ارتكاب المعصية‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لا يعتبر إيلاؤه، وهو قول زفر من الحنفيّة واختاره الطّحاويّ والكرخيّ، وهو أيضاً قول أحمد في روايةٍ أخرى عنه، وهو منقول عن عثمان بن عفّان وعمر بن عبد العزيز‏.‏ وحجّتهم في ذلك‏:‏ أنّ صحّة التّصرّف تعتمد على القصد والإرادة الصّحيحة، والسّكران قد غلب السّكر على عقله، فلا يكون عنده قصد ولا إرادة صحيحة، فلا يعتدّ بالعبارة الصّادرة منه، كما لا يعتدّ بالعبارة الصّادرة من المجنون والمعتوه والنّائم والمغمى عليه‏.‏ والشّارع لم يترك السّكران بدون عقوبةٍ على سكره، حتّى نحتاج إلى عقوبةٍ أخرى ننزلها به، خصوصاً إذا كانت هذه العقوبة الأخرى لا تقتصر على الجاني، بل تتعدّاه إلى غيره من الزّوجة والأولاد‏.‏

وأساس هذا الاختلاف هو الاختلاف في اعتبار طلاقه وعدم اعتباره‏:‏ فمن قال باعتبار طلاقه قال باعتبار إيلائه، ومن قال بعدم اعتبار طلاقه قال بعدم اعتبار إيلائه، لأنّ الإيلاء كطلاقٍ معلّقٍ عند بعضهم، وسبب للطّلاق عند آخرين، فيكون له حكمه‏.‏

د - ما يشترط في المدّة المحلوف عليها‏:‏

14 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الإيلاء لا بدّ له من مدّةٍ يحلف الزّوج على ترك قربان زوجته فيها‏.‏ لكنّهم اختلفوا في مقدار هذه المدّة‏.‏ فقال الحنفيّة‏:‏ إنّ مدّة الإيلاء أربعة أشهرٍ أو أكثر، وهو قول عطاءٍ والثّوريّ ورواية عن أحمد‏.‏

فلو حلف الرّجل على ترك قربان زوجته أقلّ من أربعة أشهرٍ لا يكون إيلاءً، بل يكون يميناً‏.‏ فإذا حنث بالوطء قبل مضيّ أربعة أشهرٍ لزمته كفّارة يمينٍ‏.‏

وعلى هذا لو حلف الزّوج‏:‏ ألاّ يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهرٍ كان إيلاءً باتّفاق الفقهاء، وكذلك لو حلف‏:‏ ألاّ يقرب زوجته، ولم يذكر مدّةً، أو قال‏:‏ أبداً، فإنّه يكون إيلاءً بالاتّفاق أيضاً‏.‏ أمّا لو حلف ألاّ يقرب زوجته أربعة أشهرٍ فإنّه يكون إيلاءً عند الحنفيّة، ولا يكون إيلاءً عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ولو حلف‏:‏ ألاّ يقرب زوجته أقلّ من أربعة أشهرٍ فإنّه لا يكون إيلاءً عند الجميع‏.‏

وقد احتجّ الحنفيّة ومن وافقهم بأنّ الإيلاء له حكمان‏:‏ أحدهما‏:‏ الحنث إذا وطئ الرّجل زوجته قبل مضيّ أربعة أشهرٍ، وثانيهما‏:‏ وقوع الطّلاق إن لم يطأ زوجته قبل مضيّ هذه المدّة‏.‏ وهذا يفيد أنّ الأربعة الأشهر هي المدّة المعتبرة في الإيلاء، فلا يكون الحلف على ما دونها إيلاءً، كما لا يتوقّف الإيلاء على الحلف على أكثر منها، وبأنّ الإيلاء هو اليمين الّتي تمنع قربان الزّوجة خوفاً من لزوم الحنث، فلو كان الحلف على ترك قربان الزّوجة أقلّ من أربعة أشهرٍ، لأمكن الزّوج بعد مضيّ هذه المدّة أن يجامع زوجته من غير أن يلزمه الحنث في يمينه، فلا يكون هذا إيلاءً‏.‏

واحتجّ المالكيّة ومن معهم بأنّ المولي يوقف بعد مضيّ أربعة أشهرٍ، يخيّر بين الفيء ‏(‏وهو الرّجوع عن اليمين بالفعل أو القول‏)‏ والتّطليق، فلا بدّ أن تكون المدّة على ترك قربان الزّوجة فيها أكثر من أربعة أشهرٍ، ولو كانت أربعة أشهرٍ أو أقلّ منها لانقضى الإيلاء بانقضائها، ولا تصحّ المطالبة من غير الإيلاء‏.‏

15 - إذا فقد الإيلاء شرطاً من الشّرائط الّتي تقدّم بيانها، فهل يكون لليمين مفعولها الّذي وضعت لإفادته شرعاً‏؟‏ ذلك يتوقّف على الشّرط الّذي لم يتحقّق، فإن كان من شرائط الصّيغة ترتّب على فقده عدم اعتبار اليمين أصلاً، بحيث لا يترتّب على مخالفة موجبها الحنث ووجوب الكفّارة أو لزوم ما رتّبه عليها‏.‏

وكذلك لو كان الشّرط الّذي لم يتحقّق من الشّرائط الّتي تعود إلى الرّجل كالبلوغ أو العقل، لأنّه لا اعتبار لما يصدر عن الصّبيّ قبل البلوغ، ولا لما يصدر عن المجنون ومن في حكمه‏.‏ أمّا لو كان من الشّرائط الّتي تعود إلى الرّجل والمرأة معاً، وهو قيام النّكاح حين الإيلاء، فإنّ فقده لا يعطّل مفعول اليمين، بل تبقى في حقّ الحنث، فلو قال رجل لامرأةٍ أجنبيّةٍ‏:‏ واللّه لا أطأك مدّة أربعة أشهرٍ، ثمّ وطئها قبل مضيّ أربعة أشهرٍ، وجبت عليه كفّارة اليمين المبيّنة في كتب الفقه، حتّى لو كان الوطء بعد العقد عليها‏.‏

أمّا في حقّ الطّلاق، فإنّ فقد الشّرط يبطل اليمين بالنّسبة له، ولهذا لا يقع الطّلاق بمضيّ أربعة أشهرٍ، لعدم انعقاد الإيلاء في حقّ الطّلاق لانعدام المحلّيّة‏.‏

ومثل هذا يقال في حال عدم توافر شرائط المدّة المحلوف عليها، فإنّ مفعول اليمين يبقى‏.‏ ولو نقصت المدّة الّتي حلف الرّجل على ترك قربان الزّوجة فيها عن أربعة أشهرٍ - عند من يرى أنّها لا تكون أقلّ من ذلك - وحتّى لو وطئ زوجته في أثناء المدّة الّتي حلف على ترك قربانها فيها، وجبت عليه الكفّارة‏.‏

أثر الإيلاء بعد انعقاده

16 - إذا تحقّق ركن الإيلاء وتوافرت شرائطه ترتّب عليه أحد أثرين‏:‏

أوّلهما‏:‏ يترتّب عليه في حالة إصرار الزّوج على عدم قربان زوجته الّتي آلى منها، حتّى تمضي أربعة أشهرٍ من تاريخ الإيلاء‏.‏

وثانيهما‏:‏ يترتّب عليه في حالة حنثه في اليمين الّتي حلفها‏.‏

أ - حالة الإصرار‏:‏

17 - إذا أصرّ المولي على ترك قربان زوجته الّتي حلف ألاّ يقربها كان إصراره هذا داعياً إلى الفرقة بينه وبين زوجته، لأنّ في هذا الامتناع إضراراً بالزّوجة، فحمايةً لها من هذا الضّرر، يكون لها الحقّ في مطالبته بالعودة إلى معاشرتها‏.‏

فإن لم يعد إلى معاشرتها حتّى مضت أربعة أشهرٍ فهل يقع الطّلاق بمجرّد مضيّها‏؟‏

يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّ الطّلاق لا يقع بمضيّ أربعة أشهرٍ، بل للزّوجة أن ترفع الأمر إلى القاضي، فيأمر الزّوج بالفيء، أي الرّجوع عن موجب يمينه، فإن أبى الفيء أمره بتطليقها، فإن لم يطلّق طلّقها عليه القاضي‏.‏

ويرى فقهاء الحنفيّة أنّ الطّلاق يقع بمجرّد مضيّ أربعة أشهرٍ، ولا يتوقّف على رفع الأمر إلى القاضي، ولا حكمٍ منه بتطليقها‏.‏ وذلك جزاءً للزّوج على الإضرار بزوجته وإيذائها بمنع حقّها المشروع‏.‏

والحكمة الشّرعيّة في إمهاله هذه المدّة المحافظة على علاقة الزّوجيّة ومعالجة بقائها بما هو غالب على طبائع النّاس، فإنّ البعد عن الزّوجة مثل هذا الزّمن فيه تشويق للزّوج إليها، فيحمله ذلك على وزن حاله معها وزناً صحيحاً، فإذا لم تتأثّر نفسه بالبعد عنها، ولم يبال بها سهل عليه فراقها، وإلاّ عاد إلى معاشرتها نادماً على إساءته مصرّاً على حسن معاشرتها‏.‏ وكذلك المرأة فإنّ هجرها من وسائل تأديبها، فقد تكون سبباً في انصراف الزّوج عنها بإهمالها في شأن زينتها، أو بمعاملتها إيّاه معاملةً توجب النّفرة منها، فإذا هجرها هذه المدّة كان هذا زاجراً لها عمّا فرّط منها‏.‏

وسبب الخلاف بين الجمهور وبين الحنفيّة يرجع إلى اختلافهم في المراد من التّرتيب الّذي تدلّ عليه ‏"‏ الفاء ‏"‏ في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهرٍ فإن فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم‏}‏ أهو التّرتيب الحقيقيّ وهو التّرتيب الزّمانيّ‏.‏ أي أنّ زمن المطالبة بالفيء أو الطّلاق عقب مضيّ الأجل المضروب، وهو الأربعة الأشهر أو هو التّرتيب الذّكريّ لا الزّمنيّ، فتفيد ترتيب المفصّل على المجمل، وعليه يكون الفيء بعد الإيلاء خلال الأجل المضروب لا بعده، فإذا انقضى الأجل بدون فيءٍ فيه وقع الطّلاق بمضيّه‏؟‏ فبالأوّل قال الجمهور، وبالثّاني قال الحنفيّة‏.‏

فمعنى الآية على رأي الحنفيّة‏:‏ أنّ للأزواج الّذين يحلفون على ترك وطء زوجاتهم انتظار أربعة أشهرٍ، فإن فاءوا قبل مضيّ هذه المدّة، وعادوا إلى وطئهنّ، فإنّ ذلك يكون توبةً منهم عن ذلك الذّنب الّذي ارتكبوه، والّذي يترتّب عليه الإضرار بزوجاتهم وإيقاع الأذى بهنّ، واللّه يغفره لهم بالكفّارة عنه، وإن أصرّوا على تنفيذ يمينهم وهجر زوجاتهم، فلم يقربوهنّ حتّى انقضت المدّة المذكورة، وهي أربعة أشهرٍ، فإنّ ذلك يكون إصراراً منهم على الطّلاق، فيكون إيلاؤهم طلاقاً، فتطلق منهم زوجاتهم بمجرّد انقضاء هذه المدّة من غير حاجةٍ إلى تطليقٍ منهم أو من القاضي، جزاءً لهم على ضرر زوجاتهم‏.‏

ومعنى الآية على رأي الجمهور‏:‏ أنّ الأزواج الّذين يحلفون على ترك قربان زوجاتهم يمهلون أربعة أشهرٍ، فإن فاءوا ورجعوا عمّا منعوا أنفسهم منه بعد مضيّ هذه المدّة فإنّ اللّه غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين والعزم على ذلك الضّرر، وإن عزموا على الطّلاق بعد انقضاء المدّة فإنّ اللّه سميع لما يقع منهم من الطّلاق، عليم بما يصدر عنهم من خيرٍ أو شرٍّ، فيجازيهم عليه‏.‏

وممّا استدلّ به لمذهب الجمهور ما رواه الدّارقطنيّ في سننه عن سهيل بن أبي صالحٍ عن أبيه قال‏:‏ «سألت اثني عشر رجلاً من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ يولي من امرأته قالوا‏:‏ ليس عليه شيء حتّى تمضي أربعة أشهرٍ، فيوقف، فإن فاء وإلاّ طلّق»‏.‏

نوع الطّلاق الّذي يقع نتيجةً للإيلاء

18 - إذا وقع الطّلاق نتيجةً للإيلاء، سواء أكان وقوعه بمضيّ المدّة عند من يقول بذلك من الفقهاء، أم كان وقوعه بإيقاع الزّوج، بناءً على أمر القاضي له بالطّلاق، أو بإيقاع القاضي عند امتناع الزّوج من الطّلاق عند من لا يقول بوقوع الطّلاق بمضيّ المدّة من الفقهاء، فإنّه يكون طلاقاً بائناً عند الحنفيّة، وهو المنصوص عن أحمد في فرقة الحاكم‏.‏ لأنّه طلاق لدفع الضّرر عن الزّوجة، ولا يندفع الضّرر عنها إلاّ بالطّلاق البائن، إذ لو كان رجعيّاً لاستطاع الزّوج إعادتها فلا تتخلّص من الضّرر، ولأنّ القول بوقوع الطّلاق رجعيّاً يؤدّي إلى العبث، لأنّ الزّوج إذا امتنع عن الفيء والتّطليق يقدّم إلى القاضي ليطلّق عليه، ثمّ إذا طلّق عليه القاضي يراجعها ثانياً، فيكون ما فعله القاضي عبثاً، والعبث لا يجوز‏.‏ وقال مالك والشّافعيّ وأحمد في روايةٍ أخرى‏:‏ إنّ الطّلاق الواقع بالإيلاء طلاق رجعيّ ما دامت المرأة قد دخل بها الزّوج قبل ذلك، لأنّه طلاق لامرأةٍ مدخولٍ بها من غير عوضٍ ولا استيفاء عددٍ، فيكون رجعيّاً كالطّلاق في غير الإيلاء‏.‏

ولم يشترط الشّافعيّة والحنابلة شيئاً لصحّة الرّجعة من المولي، إلاّ أنّهم قالوا‏:‏ إنّه إذا ارتجعها - وقد بقيت مدّة الإيلاء - ضربت له مدّة أخرى، فإن لم يفء طلّق عليه القاضي لرفع الضّرر عن المرأة‏.‏ واشترط المالكيّة لصحّة الرّجعة انحلال اليمين عنه في العدّة بالوطء فيها، أو بتكفير ما يكفّر، أو بتعجيل الحنث في العدّة، فإذا لم ينحلّ الإيلاء بوجهٍ من هذه الوجوه فإنّ الرّجعة تكون باطلةً لا أثر لها‏.‏

ب - حالة الحنث أو الفيء‏:‏

19 - المقصود بالحنث عدم الوفاء بموجب اليمين، وهو ذلك الوفاء المكروه الّذي يتحقّق بامتناع الزّوج من وطء زوجته الّتي آلى منها قبل أن تمضي المدّة الّتي حلف ألاّ يقربها فيها، فإذا كانت المدّة الّتي حلف ألاّ يقرب زوجته فيها أكثر من أربعة أشهرٍ، كخمسة أشهرٍ ‏(‏مثلاً‏)‏ ثمّ قربها قبل أن تمضي هذه المدّة، كان حانثاً في يمينه، حيث إنّه لم يعمل بمقتضاها، وهو الامتناع من قربان الزّوجة مدّة خمسة أشهرٍ‏.‏ والحنث في اليمين وإن كان غير مرغوبٍ فيه شرعاً، لكنّه في الإيلاء مستحبّ، لأنّ فيه رجوعاً عن إيذاء الزّوجة والإضرار بها، فهو ما ينطبق عليه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيراً منها فليأت الّذي هو خير، وليكفّر عن يمينه»‏.‏

أمّا الفيء فمعناه في الأصل‏:‏ الرّجوع، ولذلك يسمّى الظّلّ الّذي يكون بعد الزّوال فيئاً، لأنّه رجع من المغرب إلى المشرق‏.‏ والمراد منه هنا‏:‏ رجوع الزّوج إلى جماع زوجته الّذي منع نفسه منه باليمين عند القدرة عليه، أو الوعد به عند العجز عنه‏.‏

ووجود الفيء لا يترتّب عليه الحنث في اليمين إلاّ إذا كان بالجماع، لأنّه هو المحلوف على تركه، أمّا لو كان الفيء بالقول - كما سيأتي - فلا يترتّب عليه الحنث، بل تبقى اليمين قائمةً منعقدةً حتّى يوجد الجماع، فإن حصل منه قبل مضيّ المدّة الّتي حلف الزّوج على ترك وطء زوجته فيها حنث وانحلّت اليمين، ومن هذا يبيّن أنّ الفيء يكون وجوده سبباً في انحلال الإيلاء وارتفاعه، وإنّه إن كان بالفعل انحلّ الإيلاء وارتفع في حقّ الطّلاق والحنث جميعاً، وإن كان بالقول انحلّ الإيلاء في حقّ الطّلاق، وبقي في حقّ الحنث، حتّى لو وجد الجماع في الزّمن المحلوف على تركه فيه وجبت الكفّارة وانحلّ الإيلاء بالنّسبة للحنث أيضاً‏.‏

انحلال الإيلاء

لانحلال الإيلاء سببان‏:‏ الفيء، والطّلاق‏.‏

حالة الفيء

20 - الفيء - كما تقدّم - هو أن يرجع الزّوج إلى معاشرة الزّوجة الّتي آلى منها، بحيث تعود الحياة الزّوجيّة بينهما إلى ما كانت عليه قبل الإيلاء‏.‏

وللفيء طريقان‏:‏ إحداهما أصليّة، والأخرى استثنائيّة‏.‏

أمّا الأصليّة‏:‏ فهي الفيء بالفعل‏.‏

وأمّا الاستثنائيّة‏:‏ فهي الفيء بالقول‏.‏

أ - الطّريق الأصليّة في الفيء‏:‏ الفيء بالفعل‏:‏

21 - المراد بالفعل الّذي يكون فيئاً وينحلّ به الإيلاء‏:‏ إنّما هو الجماع، ولا خلاف في هذا لأحدٍ من الفقهاء‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ الفيء الجماع، ولا يكون ما دون الجماع فيئاً‏.‏ وينبني على الفيء بالفعل انحلال الإيلاء، ولزوم مقتضى اليمين، لأنّه بالجماع يتحقّق الحنث، واليمين لا يبقى بعد الحنث، إذ الحنث يقتضي نقض اليمين، والشّيء لا يبقى مع وجود ما ينقضه‏.‏

22 - فإن كانت اليمين قسماً باللّه تعالى أو بصفةٍ من صفاته الّتي يحلف بها، كعزّة اللّه وعظمته وجلاله وكبريائه، لزمته كفّارة يمينٍ في قول أكثر أهل العلم، وعند بعض العلماء لا تجب عليه الكفّارة‏.‏ وإن كانت اليمين بتعليق شيءٍ على قربان الزّوجة لزمه ما التزمه من ذلك، فإن كان المعلّق على القربان طلاقاً أو عتقاً وقع الطّلاق والعتق وقت حصول الفيء، لأنّ الطّلاق والعتق متى علّق حصوله على حصول أمرٍ في المستقبل، ووجد المعلّق عليه، وقع الطّلاق وثبت العتق بمجرّد وجوده، كما هو مذهب الفقهاء‏.‏

وإن كان المعلّق على القربان صلاةً أو صياماً أو حجّاً أو صدقةً، فإمّا أن يعيّن لأدائه وقتاً أو لا يعيّن‏.‏ فإن عيّن للأداء وقتاً كأن يقول‏:‏ إن قربت زوجتي مدّة خمسة أشهرٍ فعليّ صلاة مائة ركعةٍ في يوم كذا ‏(‏مثلاً‏)‏ لزمته الصّلاة في الوقت الّذي عيّنه‏.‏ وإن لم يعيّن للأداء وقتاً وجب عليه فعل ما التزمه في أيّ وقتٍ أراد، ولا إثم عليه في التّأخير، وإن كان الأفضل الأداء في أوّل وقتٍ يمكنه الأداء فيه خوفاً من انتهاء الأجل قبل أن يؤدّي ما وجب عليه‏.‏

ب - الطّريق الاستثنائيّة في الفيء‏:‏ الفيء بالقول‏:‏

23 - إذا آلى الرّجل من زوجته كان الواجب شرعاً عليه أن يفيء إليها بالفعل، فإن لم يقدر على الفيء بالفعل لزمه الفيء بالقول‏.‏ كأن يقول‏:‏ فئت إلى زوجتي فلانة، أو رجعت عمّا قلت، أو متى قدرت جامعتها، وما أشبه ذلك من كلّ ما يدلّ على رجوعه عمّا منع نفسه منه باليمين‏.‏

والحكمة في تشريع الفيء بالقول‏:‏ أنّ الزّوج لمّا آذى زوجته بالامتناع عن قربانها، وعجز عن الرّجوع، وكان في إعلانه الوعد به إرضاءً لها لزمه هذا الوعد، ولأنّ المقصود بالفيئة ترك الإضرار الّذي قصده الزّوج بالإيلاء، وهذا يتحقّق بظهور عزمه على العود إلى معاشرتها عند القدرة‏.‏

شرائط صحّة الفيء بالقول‏:‏

24 - لا يصحّ الفيء بالقول إلاّ إذا توافرت فيه الشّرائط الآتية‏:‏

الشّريطة الأولى‏:‏

العجز عن الجماع، فإن كان الزّوج قادراً على الجماع لا يصحّ منه الفيء بالقول، لأنّ الفيء بالجماع هو الأصل، إذ به يندفع الظّلم عن الزّوجة حقيقةً، والفيء بالقول خلف عنه، ولا عبرة بالخلف مع القدرة على الأصل، كالتّيمّم مع الوضوء‏.‏

والعجز نوعان‏:‏ عجز حقيقيّ وعجز حكميّ‏.‏

والعجز الحقيقيّ، مثل أن يكون أحد الزّوجين مريضاً مرضاً يتعذّر معه الجماع، أو تكون المرأة صغيرةً لا يجامع مثلها، أو تكون رتقاء‏:‏ وهي الّتي يكون بها انسداد موضع الجماع من الفرج، بحيث لا يستطاع جماعها، أو يكون الزّوج مجبوباً‏:‏ وهو الّذي استؤصل منه عضو التّناسل، أو يكون عنّيناً‏:‏ وهو من لا يقدر على الجماع مع وجود عضو التّناسل لضعفٍ أو كبر سنٍّ أو مرضٍ، أو يكون أحد الزّوجين محبوساً حبساً يحول دون الوصول إلى الجماع، أو يكون بينهما مسافة لا يقدر على قطعها في مدّة الإيلاء‏.‏

والعجز الحكميّ، هو عندما يكون المانع عن الجماع شرعيّاً، كأن تكون المرأة حائضاً عند انقضاء مدّة التّربّص ‏(‏هذا عند الفقهاء الّذين يقولون بالفيء بعد انقضاء مدّة الإيلاء‏)‏ أو يكون الزّوج محرماً بالحجّ وقت الإيلاء من زوجته، وبينه وبين التّحلّل من الإحرام أربعة أشهرٍ ‏(‏وهذا عند الفقهاء الّذين يقولون‏:‏ الفيء لا يكون إلاّ في مدّة الإيلاء‏)‏‏.‏

فإن كان العجز حقيقيّاً انتقل الفيء من الفعل إلى القول بالاتّفاق، وإن كان العجز حكميّاً انتقل الفيء من الفعل إلى القول أيضاً عند المالكيّة والحنابلة وفي قولٍ مرجوحٍ للشّافعيّة‏.‏

ولا ينتقل عند أبي حنيفة وصاحبيه والشّافعيّ‏.‏ وصرّح الشّافعيّة بأنّه يطالب بالطّلاق‏.‏ وحجّة القائلين بالانتقال‏:‏ أنّ العجز الحكميّ كالعجز الحقيقيّ في أصول الشّريعة، كما في الخلوة بالزّوجة، فإنّه يستوي فيها المانع الحقيقيّ والمانع الشّرعيّ في المنع من صحّة الخلوة، فكذلك الفيء في الإيلاء يقوم فيه العجز الحكميّ مقام العجز الحقيقيّ في صحّة الفيء بالقول بدلاً من الفيء بالفعل‏.‏

وحجّة القائلين بعدم الانتقال‏:‏ أنّ الزّوج قادر على الجماع حقيقةً، والامتناع عنه إنّما جاء بسببٍ منه، فلا يسقط حقّاً واجباً عليه‏.‏ وأيضاً‏:‏ فإنّ الزّوج هو المتسبّب باختياره فيما لزمه بطريقٍ محظورٍ فلا يستحقّ التّخفيف‏.‏

الشّريطة الثّانية‏:‏

دوام العجز عن الجماع إلى أن تمضي مدّة الإيلاء، فلو كان الزّوج عاجزاً عن الجماع في مبدأ الأمر، ثمّ قدر عليه في المدّة بطل الفيء بالقول، وانتقل إلى الفيء بالجماع، حتّى لو ترك الزّوجة ولم يقربها إلى أن مضت أربعة أشهرٍ بانت منه عند الحنفيّة‏.‏ وذلك لما سبق من أنّ الفيء باللّسان بدل عن الفيء بالجماع، ومن قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل بطل حكم البدل، كالمتيمّم إذا قدر على الماء قبل أداء الصّلاة‏.‏

وإذا آلى الرّجل من زوجته وهو صحيح، ثمّ مرض، فإن مضت عليه مدّة وهو صحيح يمكنه الجماع فيها، فلا يصحّ فيئه بالقول، لأنّه كان قادراً على الجماع مدّة الصّحّة، فإذا لم يجامع مع القدرة عليه يكون قد فرّط في إيفاء حقّ زوجته، فلا يعذر بالمرض الحادث‏.‏

أمّا إذا لم تكن مضت عليه مدّة - وهو صحيح يمكنه الجماع فيها - فإنّ فيئه بالقول يكون صحيحاً، لأنّه إذا لم يقدر على الجماع في مدّة الصّحّة لقصرها، لم يكن مفرّطاً في ترك الجماع، فكان معذوراً‏.‏

هذا ما صرّح به الحنفيّة، وهو ما يفهم من عبارات المذاهب الأخرى‏.‏

الشّريطة الثّالثة‏:‏

قيام النّكاح وقت الفيء بالقول، وذلك بأن يكون الفيء حال قيام الزّوجيّة، وقبل حصول الطّلاق البائن من الزّوج‏.‏ أمّا لو آلى الرّجل من زوجته، ثمّ أوقع عليها طلاقاً بائناً، وفاءً بالقول لم يكن ذلك فيئاً، وبقي الإيلاء، لأنّ الفيء بالقول حال قيام النّكاح إنّما يرفع الإيلاء في حقّ حكم الطّلاق، لإيفاء حقّ الزّوجة بهذا الفيء، والمطلّقة بائناً ليس لها الحقّ في الجماع، حتّى يكون الرّجل مضرّاً بها بالامتناع عن جماعها، ووقوع الطّلاق بالإيلاء كان لهذا السّبب، ولم يوجد، فلا يقع عليها طلاق بمضيّ المدّة، لكن يبقى الإيلاء، لأنّه لم يوجد ما يرفعه وهو الحنث، ولهذا لو تزوّجها ومضت مدّة الإيلاء بعد الزّواج من غير فيءٍ وقع عليها الطّلاق عند الحنفيّة، وأمر بالفيء إليها أو طلاقها عند الجمهور، وهذا بخلاف الفيء بالفعل، فإنّه يصحّ بعد زوال النّكاح وثبوت البينونة بسببٍ آخر، كالخلع أو الطّلاق على مالٍ، فإنّه بالفيء بالفعل - وإن كان محرماً - يبطل الإيلاء، لأنّه إذا وطئها حنث في يمينه، وبالحنث تنحلّ اليمين ويبطل الإيلاء، ولكن لا ترجع المرأة إلى عصمته، ويعتبر آثماً بالوطء في عدّة البينونة‏.‏

وقت الفيء‏:‏

25 - تقدّم أنّ المولي يلزمه شرعاً أن يرفع الضّرر عن الزّوجة الّتي آلى منها، وطريق رفع الضّرر عنها يكون بالفيء، والفيء له طريقان‏:‏ إحداهما أصليّة وهي‏:‏ الفعل، وثانيتهما استثنائيّة وهي‏:‏ القول‏.‏

وسواء أكان الفيء بالفعل أم بالقول فإنّ له وقتاً تختلف آراء الفقهاء فيه على الوجه الآتي‏:‏ يرى الحنفيّة أنّ الفيء يكون في مدّة الإيلاء، وهي الأربعة الأشهر‏.‏ فإن حصل الفيء فيها، وكان الفيء بالفعل، حنث الزّوج في يمينه، وانحلّ الإيلاء بالنّسبة للطّلاق، حتّى لو مضت أربعة أشهرٍ لا تبين الزّوجة‏.‏

وإن حصل الفيء بالقول انحلّ الإيلاء في حقّ الطّلاق، وبقي في حقّ الحنث، حتّى لو فاء الزّوج بالقول في المدّة، ثمّ قدر على الجماع بعد المدّة وجامعها، لزمته الكفّارة، لأنّ وجوب الكفّارة معلّق بالحنث، والحنث هو فعل المحلوف عليه، والمحلوف عليه هو الجماع، فلا يحصل الحنث بدونه‏.‏

وإن لم يحصل الفيء في مدّة الإيلاء بالفعل ولا بالقول، وقع الطّلاق بمضيّها عند الحنفيّة كما تقدّم‏.‏ ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّ الفيء يكون قبل مضيّ الأربعة الأشهر، ويكون بعدها، إلاّ أنّه إن حصل الفيء قبل مضيّ هذه المدّة فالحكم كما سبق في الكلام على مذهب الحنفيّة، وإن حصل الفيء بعد مضيّها ارتفع الإيلاء في حقّ الطّلاق وفي حقّ الحنث جميعاً‏.‏ وكذا إن حدّد مدّةً في يمينه ففاء بعد مضيّها‏.‏

أمّا إن كان الفيء قبل مضيّها، فإنّ الزّوج يحنث في يمينه، وتلزمه كفّارة اليمين إن كان اليمين قسماً، ويلزمه ما التزمه إن لم يكن اليمين قسماً، عند من يرى صحّة الإيلاء في حالتي القسم والتّعليق‏.‏ ومنشأ الاختلاف بين الفقهاء في ذلك يرجع إلى اختلافهم في فهم قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لِلّذين يُؤْلُون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ فإنْ فاءوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ‏}‏، هل الفيئة مطلوبة خارج الأربعة الأشهر أو فيها‏؟‏ وقد بيّنّا ذلك فيما تقدّم‏.‏

حالة الطّلاق

أوّلاً‏:‏ الطّلاق الثّلاث‏:‏

26 - إذا آلى الرّجل من زوجته، وكان الإيلاء مطلقاً عن التّقييد بمدّةٍ، أو كان مؤبّداً، ولم يجامعها، بل طلّقها في مدّة الإيلاء ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ، أو طلّقها طلقةً واحدةً - وكانت المكمّلة للثّلاث - ارتفع الإيلاء في حقّ الطّلاق عند أبي حنيفة وصاحبيه، ومالكٍ، وهو أظهر أقوالٍ ثلاثةٍ للإمام الشّافعيّ‏.‏

وقال أحمد وزفر من الحنفيّة، والشّافعيّ في قولٍ ثانٍ من أقواله الثّلاثة‏:‏ لا يرتفع الإيلاء بالطّلاق الثّلاث‏.‏ وعلى هذا لو تزوّجت المرأة رجلاً آخر، ثمّ عادت إلى الزّوج الأوّل المولي منها، ومضت أربعة أشهرٍ من وقت زواجها به ولم يجامعها، لا يقع عليها شيء عند أبي حنيفة وصاحبيه، ولا يطالب بالفيء أو الطّلاق إن لم يفئ عند مالكٍ والشّافعيّ في قوله الموافق لأبي حنيفة وصاحبيه‏.‏

أمّا عند أحمد والشّافعيّ ‏(‏في أحد أقواله‏)‏ فللزّوجة أن ترفع الأمر إلى القاضي، والقاضي يقف الزّوج، فإمّا أن يفيء أو يطلّق، فإن لم يفعل طلّق عليه القاضي‏.‏

وعند زفر من الحنفيّة‏:‏ يقع عليها طلاق بائن بمضيّ أربعة أشهرٍ من وقت زواجها به من غير وقاعٍ‏.‏

وحجّة الأوّلين‏:‏ أنّ الحلّ الثّابت بالزّواج الأوّل قد زال بالكلّيّة بالطّلاق الثّلاث، والحلّ الحاصل بالزّواج الثّاني حلّ جديد، ولهذا يملك فيه الزّوج ثلاث طلقاتٍ، فصار إيلاؤه في الزّواج الأوّل كإيلائه من امرأةٍ أجنبيّةٍ‏.‏

وحجّة الآخرين‏:‏ أنّ اليمين صدرت مطلّقةً غير مقيّدةٍ بالحلّ الّذي كان قائماً وقت صدورها، وعلى هذا توجد اليمين عندما يتحقّق حلّ المرأة للرّجل، بلا فرقٍ بين الحلّ الّذي كان موجوداً عند صدورها، وبين الحلّ الّذي وجد بعد زوال الحلّ الأوّل‏.‏ فإذا عادت المرأة إلى الزّوج الّذي آلى منها صدق عليه أنّه ممتنع من جماع امرأته بناءً على يمينه، فيثبت له حكم الإيلاء كما لو لم يطلّق‏.‏

أمّا الإيلاء في حقّ الحنث، فإنّه باقٍ بعد الطّلاق الثّلاث عند هؤلاء الفقهاء جميعاً‏.‏

وعلى هذا لو آلى الرّجل من زوجته إيلاءً مطلقاً عن التّقييد بمدّةٍ، أو مؤبّداً، ولم يجامعها، ثمّ طلّقها ثلاثاً، وعادت إليه بعد أن تزوّجت رجلاً آخر، ثمّ جامعها حنث في يمينه، ولزمته كفّارة اليمين إن كانت اليمين قسماً، ولزمه ما علّقه على جماعها إن لم تكن اليمين قسماً، لأنّ اليمين إذا كانت لها مدّة فإنّها تبقى ما بقيت هذه المدّة، ولا تبطل إلاّ بالحنث، وهو فعل المحلوف عليه قبل مضيّ مدّة اليمين، أو بمضيّ هذه المدّة بدون حنثٍ‏.‏ وإن كانت اليمين مطلقةً لم تقيّد بمدّةٍ، أو ذكرت فيها كلمة الأبد، فإنّها لا تبطل إلاّ بالحنث، وهو فعل الشّيء المحلوف على تركه ‏(‏وهو في الإيلاء الجماع‏)‏ فإذا لم يوجد الحنث فاليمين باقية‏.‏

ثانياً‏:‏ بقاء الإيلاء بعد البينونة بما دون الثّلاث‏:‏

27 - إذا آلى الرّجل من زوجته، وكان الإيلاء مؤبّداً أو مطلقاً عن التّوقيت، بأن قال‏:‏ واللّه لا أقرب زوجتي أبداً، أو قال‏:‏ واللّه لا أقرب زوجتي ولم يذكر وقتاً، ثمّ أبانها بما دون الثّلاث، وتزوّجها بعد ذلك، كان الإيلاء باقياً عند الفقهاء جميعاً، ما عدا الشّافعيّ في أحد أقواله الثّلاثة، فإنّ الإيلاء ينتهي عنده بالطّلاق البائن بما دون الثّلاث، كما ينتهي بالطّلاق الثّلاث‏.‏ وبناءً على رأي الجمهور من الفقهاء في بقاء الإيلاء بعد البينونة بما دون الثّلاث، لو مضت أربعة أشهرٍ من وقت الزّواج ولم يجامعها، وقعت طلقةً بائنةً عند الحنفيّة‏.‏ وعند المالكيّة والحنابلة ومن وافقهم‏:‏ يؤمر بالفيء، فإن أبى ولم يطلّق، طلّق عليه القاضي‏.‏ وكذلك لو تزوّجها بعدما وقع عليها الطّلاق الثّاني، ومضت أربعة أشهرٍ لم يقربها فيها منذ تزوّجها‏:‏ وقعت عليها طلقة ثالثة عند أئمّة الحنفيّة‏.‏ أمّا عند غيرهم فيؤمر بالفيء أو الطّلاق، فإن لم يفء أو يطلّق طلّق عليه القاضي، وبهذا تصير المرأة بائنةً بينونةً كبرى، ويبقى الإيلاء في حقّ الحنث باتّفاق الفقهاء، وكذلك في حقّ الطّلاق عند أحمد وزفر من الحنفيّة، وينحلّ الإيلاء في حقّ الطّلاق عند أبي حنيفة وصاحبيه ومالكٍ على ما تقدّم‏.‏ ولو أبان الزّوج زوجته الّتي آلى منها إيلاءً مطلقاً أو مؤبّداً بما دون الثّلاث، وتزوّجت برجلٍ آخر، ودخل بها، ثمّ عادت إلى الأوّل عاد حكم الإيلاء من غير خلافٍ بين الجمهور من الفقهاء كما تقدّم‏.‏ إنّما الاختلاف بينهم فيما تعود به إلى الزّوج الأوّل‏:‏ فعند أبي حنيفة وأبي يوسف تعود بثلاث تطليقاتٍ، وعند مالكٍ والشّافعيّ وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه تعود إليه بما بقي، وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة‏.‏

وهذا الخلاف مبنيّ على أنّ الزّواج الثّاني هل يهدم الطّلقة والطّلقتين كما يهدم الثّلاث، أو لا يهدم إلاّ الثّلاث‏؟‏ فعند الأوّلين يهدم الطّلقة والطّلقتين كما يهدم الثّلاث، وعند الآخرين لا يهدم إلاّ الثّلاث‏.‏

وحجّة الفريق الأوّل‏:‏ أنّ الزّواج الثّاني إذا هدم الطّلاق الثّلاث، وأنشأ حلّاً كاملاً، فأولى أن يهدم ما دون الثّلاث، ويكمل الحلّ النّاقص‏.‏

وحجّة الفريق الثّاني‏:‏ أنّ الحلّ الأوّل لا يزول إلاّ بالطّلاق الثّلاث، فإذا طلّق الرّجل زوجته واحدةً أو اثنتين لم تحرم عليه، وحلّ له التّزوّج بها، فلو تزوّجت بغيره ودخل بها ثمّ عادت إليه بعد ذلك، عادت إليه بالحلّ الأوّل، فلا يملك عليها إلاّ ما بقي من الطّلاق الّذي كان ثابتاً له في ذلك الحلّ‏.‏

إيلاج

انظر‏:‏ وطء‏.‏

إيلاد

انظر‏:‏ استيلاد، أمّ الولد‏.‏

إيلام

التّعريف

1 - الإيلام هو‏:‏ الإيجاع، والألم‏:‏ الوجع‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العذاب‏:‏

2 - العذاب‏:‏ هو الألم المستمرّ، والألم قد يكون مستمرّاً، وقد يكون غير مستمرٍّ‏.‏

وعلى هذا فالعذاب أخصّ من الألم، فكلّ عذابٍ ألم، وليس كلّ ألمٍ عذاباً‏.‏

ب - الوجع‏:‏

3 - الألم‏:‏ ما يلحقه بك غيرك‏.‏ والوجع‏:‏ ما تلحقه أنت بنفسك، أو يلحقه بك غيرك من الألم‏.‏ وعلى هذا فالوجع أعمّ من الألم‏.‏

أنواع الإيلام

4 - أ - ينقسم الإيلام باعتبار محلّه إلى قسمين‏:‏ إيلام جسديّ‏:‏ وهو الواقع على جزءٍ من أجزاء البدن، كالإيلام الحاصل من الضّرب، أو من قطع اليد في الحدّ ونحو ذلك‏.‏

وإيلام نفسيّ‏:‏ وهو الواقع على النّفس لا على البدن، كالإخافة والقلق والتّوبيخ ونحو ذلك‏.‏ وكلّ من الألمين له اعتباره في الشّريعة كما سيأتي‏.‏

ب - وينقسم الإيلام أيضاً باعتبار مصدره إلى قسمين‏:‏

إيلام صادر عن اللّه تعالى كالأمراض، ونحوها‏.‏

وإيلام صادر عن العبد عمداً أو خطأً‏.‏ ولكلٍّ من الألمين أحكامه في الشّريعة كما سيأتي‏.‏

الآثار المترتّبة على الإيلام

أ - الإيلام الصّادر عن اللّه تعالى‏:‏

5 - قد يبتلي اللّه تعالى بعض عباده بالآلام الجسديّة كالأمراض والأسقام، أو بالآلام النّفسيّة كالأحزان والهموم، وما على الإنسان إذا نزل به شيء من ذلك إلاّ الصّبر، عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام «عجباً لأمر المؤمن، إنّ أمره كلّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له»‏.‏ لأنّ في هذا الصّبر على الابتلاء تكفيراً لسيّئاته، وإعلاءً لدرجاته، قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه أبو سعيدٍ الخدريّ وأبو هريرة‏:‏ أنّهما سمعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما يصيب المؤمن من وصبٍ ولا نصبٍ ولا سقمٍ ولا حزنٍ، حتّى الهمّ يهمّه، إلاّ كفّر اللّه به سيّئاته» ولا ينافي هذا الأخذ بالأسباب الّتي وضعها اللّه تعالى لدفع هذا البلاء أو رفعه، كالدّواء والدّعاء والوقاية‏.‏

ب - الإيلام الصّادر عن العباد‏:‏

6 - إذا كان الإيلام صادراً عن العباد، فإنّه إذا كان نتيجة اعتداءٍ يقصد منه الإضرار نفسيّاً أم جسديّاً فإنّ في هذا الإيلام إثماً، فيجب اجتنابه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المعتدينَ‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا ضرر ولا ضرار»، كما يجب القصاص أو التّعويض الماليّ أو التّعزير، بحسب الحال، وتفصيله في الجنايات والتّعزير‏.‏

7- وقد يكون موجب الإيلام الضّمان وحده، أو مع التّعزير كما في حالات الجناية خطأً على النّفس وما دونها، على ما فصّله الفقهاء في كتاب الجنايات‏.‏ وقد ضمّن عمر إفزاع رجلٍ بأربعين درهماً‏.‏ فقد روي «أنّ رجلاً كان يقصّ شارب عمر بن الخطّاب، فأفزعه عمر‏.‏ فضرط الرّجل، فقال عمر‏:‏ إنّا لم نرد هذا، ولكنّا سنعقلها لك‏.‏ فأعطاه أربعين درهماً»‏.‏ قال الرّاوي وأحسبه قال‏:‏ وشاة أو عناقاً‏.‏

8- الإيلام الّذي يجعل وسيلةً للإصلاح عندما يجب بإيجاب اللّه تعالى، كالحدود، أو عندما يترجّح لدى وليّ الأمر جدواه في الإصلاح، كالتّعزير والتّأديب، لا يجوز تخفيف هذا النّوع من الإيلام، وقد نصّ الفقهاء على وجوب نزع الحشو والفرو عن المجلود في الحدّ والتّعزير، ليصل الألم إلى جلده‏.‏

إيماء

التّعريف

1 - الإيماء لغةً‏:‏ الإشارة باليد أو بالرّأس أو بالعين أو بالحاجب‏.‏

وقال الشّربينيّ‏:‏ الإيماء لغةً‏:‏ هو الإشارة الخفيّة‏.‏ وسواء أكانت الإشارة حسّيّةً أم معنويّةً‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك‏.‏

2 - والإيماء في اصطلاح الأصوليّين‏:‏ دلالة النّصّ على التّعليل بالقرينة،لا بصراحة اللّفظ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإشارة‏:‏

3 - الإشارة لغةً أعمّ من الإيماء، عند من يرى أنّ الإيماء إشارة خفيّة‏.‏

أمّا من يرى أنّه مطلق الإشارة فهما مترادفان‏.‏

وفي الاصطلاح عند الأصوليّين‏:‏ الإشارة دلالة اللّفظ على معنى لم يسق الكلام لأجله‏.‏ نحو دلالة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى المولودِ له رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهنّ‏}‏ على أنّ النّسب يثبت للأب، وأنّ الأب لا يشاركه أحد في النّفقة على الولد، فالإيماء عندهم أخصّ من الإيماء عند غيرهم من الفقهاء واللّغويّين، سواء أخذ في مفهوم الإيماء الإشارة مطلقاً أو الخفيّة‏.‏

وأجاز الغزاليّ تسمية الإيماء إشارةً‏.‏

ب - الدّلالة‏:‏

4 - الدّلالة أن يكون الشّيء بحالةٍ يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر، وقيل‏:‏ كون الشّيء بحيث يفهم منه شيء آخر، والأوّل يسمّى الدّالّ، والثّاني يسمّى المدلول‏.‏

والدّلالة اللّفظيّة إمّا على تمام ما وضع له اللّفظ، أو على جزئه، أو على خارجٍ عنه لازمٍ له، كدلالة لفظ ‏"‏ السّقف ‏"‏ على الحائط أو التّحيّز أو الظّلّ، ومن هذه الدّلالة الالتزاميّة الإيماء، لأنّه دلالة اللّفظ غير الموضوع للتّعليل على التّعليل‏.‏

الحكم الإجمالي

أوّلاً‏:‏ عند الفقهاء‏:‏

5 - المصلّي العاجز عن الرّكوع أو السّجود لمرضٍ أو خوفٍ أو نحوهما، يصلّي بالإيماء، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه‏.‏ ويذكر الفقهاء أحكام ذلك في أبواب صلاة المريض، وأبواب صلاة الخوف‏.‏ وفي اعتبار الإيماء بالرّأس ونحوه في العقود والتّصرّفات من النّاطق والأخرس والمعتقل لسانه تفصيل ‏(‏ر‏:‏ إشارة‏.‏ وعقد، وطلاق‏)‏‏.‏

وفي مفسدات الصّلاة في بعض الأحوال عند بعض الأئمّة ‏(‏ر‏:‏ مفسدات الصّلاة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ عند الأصوليّين‏:‏

6 - الإيماء عند أكثر الأصوليّين نوع من أنواع المنطوق‏.‏ لكنّه غير صريحٍ‏.‏ ويذكرونه في الدّلالات من مباحث الألفاظ، ومسالك العلّة من مباحث القياس‏.‏

أنواع الإيماء

7 - أنواع الإيماء كثيرة، حتّى قال الغزاليّ‏:‏ وجوه التّنبيه لا تنضبط إلاّ أنّهم ذكروا الأنواع التّالية‏:‏

أ - أن يقع الحكم في جواب سؤالٍ‏.‏ ومثاله «قول الرّجل الأنصاريّ للنّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ واقعت أهلي في نهار رمضان‏.‏ فقال‏:‏ أعتق رقبةً» فإنّه يدلّ على أنّ الوقاع في نهار رمضان علّة للإعتاق‏.‏ ووجه فهم التّعليل هنا‏:‏ أنّ غرض الأنصاريّ معرفة حكم ما فعل، وما ذكره النّبيّ صلى الله عليه وسلم جواب له ليحصل غرضه، فصار الجواب مقدّراً فيه السّؤال، كأنّه قال‏:‏ كفّر لأنّك واقعت‏.‏ وهو لو صرّح بحرف التّعليل بقوله‏:‏ كفّر لأنّك واقعت، لم يكن مومئاً للعلّيّة، بل يكون مصرّحاً بها‏.‏

وقد يجتمع التّصريح بالعلّة والإيماء بها، ومثاله «قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن بيع الرّطب بالتّمر، فقال‏:‏ أينقص الرّطب إذا يبس‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فلا، إذن» فإنّ ‏"‏ إذن ‏"‏ صريح في التّعليل‏.‏ ولو لم يذكر ‏"‏ إذن ‏"‏ لفهم التّعليل من القرينة، فاجتمعا‏.‏

ب - أن يقترن الوصف المناسب بالحكم في كلام المتكلّم‏:‏ ومثاله «قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الهرّة‏:‏ إنّها ليست بنجسٍ، إنّها من الطّوّافين عليكم»، فأفهم أنّ علّة طهارتها الطّواف، إذ لو لم يكن هذا الوصف علّةً لكان لغواً، أو - على تعبير بعض الأصوليّين - لكان بعيداً جدّاً، فيحمل الوصف على التّعليل، صيانةً لكلام الشّارع عن اللّغو والعبث‏.‏

ج - ومنه أن يفرّق بين حكمين بوصفين، فيعلم أنّ أحدهما علّة لأحد الحكمين، والآخر علّة للآخر‏.‏ والتّفريق يكون بطرقٍ‏:‏

- 1 - إمّا بصيغة صفةٍ‏.‏ مثل حديث «للفارس سهمان وللرّاجل سهم» ومثل «القاتل لا يرث» وقد ثبت من الدّين بالضّرورة توريث العصبات وغيرهم من أصحاب الفروض‏.‏

- 2 - وإمّا بصيغة الغاية، نحو ‏{‏ولا تَقْرَبُوهنّ حتّى يَطْهُرنَ‏}‏‏.‏

- 3 - وإمّا بصيغة الشّرط، نحو «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ» ناط الجواز باختلاف الجنس‏.‏

- 4 - أو بصيغة استدراكٍ‏.‏ نحو ‏{‏لا يؤاخذُكم اللّهُ باللّغوِ في أيمانِكم ولكن يُؤاخِذُكم بما عَقَّدْتُم الأيمانَ‏}‏ فدلّ على أنّ الانعقاد علّة الكفّارة‏.‏

- 5 - أو بصيغة استثناءٍ نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنصفُ ما فرضْتُم إلاّ أن يَعْفُون‏}‏ يفيد علّيّة العفو لسقوط المطالبة بالمهر‏.‏

الإيماء بذكر النّظير

8 - قد يكون الإيماء إلى العلّة بذكر نظيرٍ لمحلّ السّؤال‏.‏

ومثاله «قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لامرأةٍ من جهينة، وقد سألته‏:‏ إنّ أمّي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتّى ماتت، أفأحجّ عنها‏؟‏ قال‏:‏ نعم حجّي عنها، أرأيت لو كان على أمّك دين أكنت قاضيته‏؟‏ اقضوا اللّه فاللّه أحقّ بالوفاء»‏.‏

سألته عن دين اللّه فذكر نظيره، وهو دين الآدميّ‏.‏ فنبّه على التّعليل به، وإلاّ لزم العبث‏.‏ ففهم منه أنّ نظيره - وهو دين اللّه - كذلك علّة لمثل ذلك الحكم، وهو وجوب القضاء‏.‏

مراتب الإيماء

9 - أ - قد يذكر الحكم والوصف كلّ منهما صريحاً، نحو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يقضي القاضي وهو غضبان» فهذا إيماء إلى أنّ الغضب علّة عدم جواز الحكم، ومثل‏:‏ أكرم العلماء وأهن الجهّال فهو إيماء إلى أنّ علّة الإكرام العلم، وعلّة الإهانة الجهل‏.‏

فهذا النّوع إيماء بالاتّفاق‏.‏

ب - وقد يذكر الوصف صريحاً والحكم مستنبط‏.‏ نحو ‏{‏وأحلّ اللّه البيع‏}‏ فالوصف إحلال البيع، والحكم الصّحّة، أو يذكر الحكم والوصف مستنبط، نحو‏:‏ حرّمت الخمر، ولا تذكر الشّدّة المطربة، وهي الوصف‏.‏ فقد اختلف في هذين النّوعين فقيل‏:‏ هما من الإيماء، وقيل‏:‏ لا لعدم الاقتران بين الحكم والوصف لفظاً‏.‏